من سراب الدنيا إلى قرب ربّ السموات والارض



في زمن يزداد فيه الضجيج ، وتتلاحق فيه متطلبات الحياة ، بات البحث عن السعادة شغلاً شاغلاً للبشرية . 

يظن الكثيرون أنها تكمن في تراكم الماديات ، أو في ملاحقة الملذات اللحظية ، أو في إرضاء الناس ، فيركضون وراء سراب يظنونه ماءً ، حتى إذا بلغوه وجدوه خاوياً ، فتلك هي السعادة الوهمية .

السعادة الوهمية : قناع يتوارى خلفه القلق

نرى السعادة الوهمية في بهرجة المظاهر ، في الشغف المستمر لاقتناء الأحدث والأغلى ، في إظهار الكمال الزائف عبر شاشات التواصل ، وفي الاعتقاد بأن قيمتنا تقاس بعدد الإعجابات أو بكمية الثناء . 

هذه السعادة أشبه بقناع براق ، تخفي خلفه فراغاً روحياً ، وقلقاً دفيناً ، وشعوراً دائماً بعدم الاكتفاء . 

هي فرحة سريعة الزوال ، تترك وراءها مرارة الحسرة على ما فات ، أو خوفاً مما هو آت . 

إنها سعادة معلقة بالمخلوق ، الزائل بطبعه ، أو بالمال الذي هو في الأصل زائل ، أو بالصحة التي قد يطرأ عليها ما يغيرها . 

كل ما هو متعلق بالدنيا ، سعادته وهمية لأن الدنيا نفسها وهمية وزائلة .

القرب من الله : ينبوع السعادة الحقيقية

ولكن ، أين تكمن السعادة الحقيقية إذن ؟ إنها رحلة داخلية عميقة ، لا تطلب من الخارج ، بل تستمد قوتها من الداخل . 

وأول دروب هذه السعادة ، وأعمقها وأصدقها ، هو القرب من الله عز وجل .

حين يكون القلب متعلقاً بالخالق ، يطمئن ويسكن . 

وحين تتجه الروح إلى مصدر الوجود ، تتغذى وتشعر بالاكتمال . 

القرب من الله يمنح الإنسان سكينة لا تهزها عواصف الدنيا ، وثقة لا تزعزعها تقلبات الأيام ، ورضاً يجعله يتقبل قضاء الله وقدره بصدر رحب . 

في الصلاة ، في الدعاء ، في تلاوة القرآن ، في الذكر ، يجد المرء ملاذاً من فوضى العالم ، ونوراً يضيء دربه ، ومعنىً لوجوده يتجاوز فناء الجسد والمال . هذه السعادة ليست مرهونة بزوال النعم أو حلول النقم ؛ بل هي قناعة داخلية بأن الله كافٍ وحافظ وموجود . 

حين يعلم المرء أن هناك قوة عليا تدبر أمره ، يرى المشاكل اختبارات ويقابلها بصبر ، ويفرح بالنعم بشكر ، ويجد في كل حال حكمة ورحمة .

ملامح السعادة الحقيقية : حياة بقلب مطمئن

بعيداً عن بريق السعادة الوهمية ، تتجلى السعادة الحقيقية في عدة ملامح ...

1. الرضا والقناعة : تقبل ما قسمه الله لك ، والعمل بجد فيما هو متاح ، مع التسليم بأن الخير فيما اختاره الله .

2. العطاء والإحسان : حين تقدم الخير للآخرين دون انتظار مقابل ، تشعر بسعادة غامرة تملأ قلبك ، لأن العطاء هو سرّ من أسرار البهجة .

3. العلاقات الطيبة : بناء جسور المحبة والتفاهم مع الأهل والأصدقاء ، والتواصل الإيجابي ، يثري الروح ويجعل للحياة طعماً آخر .

4. الامتنان والشكر : التركيز على النعم الموجودة ، والحمد لله عليها باستمرار ، يفتح القلب لمزيد من الفرح والسكينة .

5. التطور والنمو : السعي لتطوير الذات ، تعلم مهارات جديدة ، وتحقيق الأهداف الشخصية التي ترضي الله وتخدم المجتمع .

6. الصبر والاحتساب : القدرة على مواجهة التحديات بصبر ، واحتساب الأجر عند الله ، واليقين بأن بعد العسر يسراً .

إن السعادة الحقيقية ليست وجهة نصل إليها ، بل هي طريقة نعيش بها . 

إنها ليست غياب المشاكل ، بل هي امتلاك القدرة على التعامل معها بقلب مطمئن وروح متوكلة . 

إنها رحلة مستمرة من القرب من الله ، والتسامح مع الذات ، والعطاء للآخرين ، والامتنان لكل نفس نتنفسه . 

بهذه المعاني ، نجد البهجة الخالدة التي لا تذبل ، والسرور الذي لا ينقطع ، لأن مصدره الله رب العالمين .

مدونة قوافل الود

تعليقات